الأخ روفينو(استقبال)

الفصل الحادي عشر: حاملو السلام، مرسلو الفرح الكامل، أعضاء المسيح المقيم

تسجيل الفصل على شكل21x29,7 cm

 ينقل لنا الإنجيل بضع أقوال المسيح المخصصة بالسّلام والفرح، ومن الممكن أن تبدو هذه الأقوال، في وجه معيّن، غامضة بعض الشّيء! بالفعل، عندما يقول لنا يسوع: "السلام أستودعكم سلامي أُعطيكم لستُ كما يُعطي العالم أُعطيكم أنا"(يو١٤ ٢٧)، هذا يعني أنّه يوجد"العديد" أو "أنواع" من السّلام.وأيضاً بخصوص الفرح: " أسألوا تعطوا ليكون فرحكم كاملاًًً"(يو١٦ ٢٤). إذا يوجد فرحاً يصفه الله" بالكامل"، فهذا لأنّه يوجد حتماً أفراح أخرى ليست كذلك! إذاً كيف" الاهتداء" في كلّ هذا؟ أخيراً، ما هو السّلام، وما هو الفرح؟

 بعد الإجابة على هذه الأسئلة، سنكتشف شجاعة القديس فرنسيس الأسيزي الفرحة والمسالمة في بضع مقاطع من حياته. سنندهش بهذه" الجبال المنقولة" وهذه "الجسور المبنية" من قبل الفقير الصغير. أخيراً، سنصل لفهم اللماذا من اللقاء المدهش، في البند١٩ من قانوننا، كموضوع مثل الموت، ومع هذه المواضيع التي هي السلام والفرح.

  • 0

المجد لله في الأعالي

 السلام الأصلي

 في جنّة عدن، قبل الخطيئة، عاش آدم وحواء في سلام كامل، سلام إلهيّ حقيقيّ ، لأنّهما عاشا في اندماج كامل مع الله. ينتج من هذا الإتّحاد مع الله ثماراً ممتازة بطبيعتها : الثّمر الأوّل هو الإتّحاد الكامل بين آدم وحواء. ففي عدن، لا وجود للشّهوات : وك ان كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان(تك٢ ٢٥).
الثّمر الثّاني من اتّحاد الله هو هذا الإندماج بين البشريّة والعا لم الّذي وُجدَت فيه :وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة حسنة المنظر وطيبة المأكل (تك٢ ٩). ويجعل هذا الإتّحاد مع الله شيئاً مستحيلاً، هذا الشّيء الذي ندعوه اليوم ألآم البشريّة : الحرب، المرض وأخيراً، الموت.

 ولكن، إن خطيئة الإنسان هي السبب الوحيد في فسخ العلاقات مع خالقه : قال إني سمعتُ صوتكَ في الجنة فخشيتُ... فاختبأت(تك٣ ١٠).
وأحدث هذا الفسخ الأساسي والرّهيب ثلاث أنواع من الإنقسمات :

١- إنقسام الإنسان في نفسه : يعي الإنسان أنه أخطأ بشكل خطير. فشعر في روحه انزعاجاً يُلاحقه ويُعذبه : خشيتُ...واختبأت. يُترّجم هذا الفعل، حالة الإضطراب العام التي تُسيطر عندها في الإنسان. واعياً بغلطته، شعر الإنسان بسوء في روحه. سنُترّجم أحياناً هذه الحالة بعبارة" منحرف المزاج".
بالفعل، بما أن الإنسان لم يعد مسالماً مع الله، فهو ليس مسالماً مع نفسه. ٢- الإنقسام بين البشر: المرأة التي جعلتها معي هي... (تك٣ ١٢). يُترّجم هذا الإتّهام من آدم على امرأته رفض الآخر." الآخر" هو "مسؤول ومذنب". هو منظور كتهديد لوجوده الخاص. هذا التّصرف هو أساس جميع الحروب، جميع الإضطهادات وجميع التناقضات بشكل عام. يُترّجم هذا الإنقسام بين البشر أيضاً احتقار الذّات لأنّ عدم وجود المحبّة ضمناً تجاه أخيه يخون عدم وجود المحبّة لذاته. لا نعي أبداً بشكل عام هذه الحقيقة، ولكن القريب هو بالضّرورة قسماً من ذاتنا. تذكر إحدى أقوال آدم فكرة الوحدة هذه بين جميع البشر : ها هذه المرة عظم من عظامي ولحم من لحمي (تك٢ ٢٣). لا يهدف النص فقط العلاقة الزوجية بل ينتشر للبشرية بكاملها. إذا آذيتُ شبهي فإنّي أؤذي نفسي لأنّ الأذيّة التي أكنّها تشوّهني. ٣- أخيراً، الإنقسام بين البشرية والخلق : في الأساس، وهب الله للإنسان السيطرة على كل ما يُحيطه : لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا وليتسلّط على كلّ الدّبابات الدّابة عل الأرض (تك١ ٢٦). إنّها الحالة الأولى في علاقات الإنسان والخلق. الحالة الثانية ، بعد الخطيئة، هي التي نعلمها. وهي مدوّنة في نفس الكتاب : فملعونة الأرض بسببكَ بمشقّة تأكل منها طول أيام حياتكَ... وشوكاً وحسكاً تُنبتُ لكَ ... (تك٣ ١٧-١٨).

 لنلحّ منذ الآن على وجه هذا السّبب ونتائجه. إن انفساخ الإنسان مع الله هو السّّبب في انقسامات أخرى، التي هي، أسباب الإنقسام. منذ ذلك الوقت، نتكهّن أنّه لن يوجد سلاماً حقيقياً إلا شرط إصلاح إتّحاد الإنسان الكامل مع الله. ومن خلال استحقاق تضحية المسيح أننا مؤمنين لتلك المصالحة.

 سنرى في الأسطر التالية أن العلي يكشف لنا ما هو السّلام الحقيقي. يتركّز هذا السّلام في الإنجيل المقدّس، بطريقة مشعّة دائماً وكنهاية وحيدة، مصالحة الإنسان الخاطئ مع خالقه، الرحيم والمخلص.

السلام، هبة من الله

 في العهدين، القديم والجديد، نقول مرحباً أو وداعاً من خلال التّحية شالوم(السلام عليك) في اللغة العربيّة. وجميع الخيرات الماديّة والرّوحية موجودة في هذه التّحية : هي تعبّر عن الحياة المسالمة مع الآخر، ولكن أيضاً اندماج الكائن أو مجتمع، الصّحة، الإزدهار المادي أو الرّوحي، الخصبة، باختصار رغد العيش والفرح. إن السّلام هو معاكس مع كلّ ما هو شرّ. الكون مسالماً، هو حالة الإنسان الذي يعيش بإنسجام مع الطّبيعة، مع نفسه، مع الله. واقعيّاً، هي نعمة، راحة، مجد، غنى، حياة. لا يجب أبداً تقلّل الخير الذي يُشكله هذا السّلام" الأرضي". المقصود هنا عن خير كامل العضويّة باحثين عنه من قبل الجميع وللجميع.

 مع هذا،يظهر السلام في الإنجيل المقدس، المعمول أولاً كفرح أرضي، كخير روحي أكثر فأكثر، بسبب مصدره الإلهي(قض٦ ٢٣-٢٤). يحصل الإنسان على هذه الهبة الإلهيّة، من خلال الصّلاة الواثقة، ولكن أيضاً من خلال عمل عدل إذ لا يوجد سلام بلا عدل. منذ ذلك الوقت، تتطلّب هبة السّلام هذه إلغاء الخطيئة من قلب الإنسان، إذ طالما تدوم الخطيئة، لا يوجد سلام حقيقي.
إنه هدف اتّهام الأنبياء تجاه الأنبياء المزيّفين الذين يُعلنون سلام بلا عدل : ويداوون كسر بنت شعبي باستخفاف قائلين سلام سلام وليس سلام (أر٦ ١٤).

 تنتهي عادةً إستشارات الأنبياء المهددة، تجاه الشعب الذي يُتلف في الخطيئة بإعلان تأهيل سلام غزير، وهذا السلام المعلن عنه والمأمول منه له إسماً ووجهاً : لأنه قد وُلدَ لنا ولد أُعطيَ لنا ابن فصارت الرئاسة عل كتفه ودعي اسمه عجيب مشيراً إلهاً جباراً أبا الأبد رئيس السلام (أش٩ ٦). سيُعطي هذا الطفل سلاماً لا انقضاء له(اش٩ ٧)، سيفتحُ فردوساً جديداً، إذ سيكون هو السلام(مي٥ ٤).
إن إنجيل الخلاص(نحو٢ ١) هذا مُنجز من الخادم المتألم : جُرحَ لأجل معاصينا وسُحقَ لأجل آثامنا فتأديب سلامنا عليه وبشدخه شُفينا(أش٥٣ ٥). وهكذا لنعي إعلان (في قداديس أيام الآحاد، في بداية مسبحة...)، نشيد الملائكة الذي يُنشدونه بأنفسها في سماء بيت لحم ليلة أول ميلاد(لو٢ ١٤)...

المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام لجميع البشر

 المسيح، سلام البشرية وخلاصها : يُصبح أمل الأنبياء والحكماء حقيقة ممنوحة من يسوع المسيح، إذ إنّ الخطيئة مهزومة فيه ومنه. منذ ولادته، أعلنت الملائكة السّلام للبشر. من جرّاء هذا، ومن فم يسوع، أصبح أمل السّلام الأرضي إعلان الخلاص. كيهودي صالح أعلن يسوع : إذهب بسلام !
ولكن مع هذه العبارة، هو، المخلص، أشفى من المرارة الميسورة(لو٨ ٤٨)، غفر الخطايا للخاطئة النّادمة(لو٧ ٥٠)، مسدّداً بذلك انتصاره على قوّة المرض والخطيئة *  إن السّلام والخلاص هما موضعين متّصلين من أشعيا : ما أجمل على الجبال أقدام المبشرين المسمعين بالسلام المبشرين بالخير المسمعين بالخلاص(أش٥٢ ٧). بتحريره عن فرنسيس، سيُعلق القديس بونافنتورا هذه الآية الشهيرة(س م٣ ٢) : أعلن عن السّلام، وعظ الخلاص ومن خلال مداخلات منافسة، أصلح مع السّلام الحقيقي الذين كانوا غائبين عن المسيح وبذلك غائبين عن الخلاص. أما توماس من شيلا نو، فهو ينقل لنا أساس هذا الإسم المسنود للأخ مبارك عند دخوله رهبنة الإخوة الأصاغر. تصور هذه النكتة جيداً الوجه المتّصل للسّلام والخلاص. قبل لقاء فرنسيس، كان يعيش الأخ مبارك ي الخطيئة(لقد حُقر بالغرور يُحدد لنا شيلا نو). إن لقاءه مع فرنسيس أحدث اهتدائه. ولكن، في اليوم التالي،(من اهتدائه)، ألبس فرنسيس الثوب مع اسم الأخ مبارك بما أنه أعاد السّلام له مع الله(٢ ش ١٠٦). . وجاء يُربكُ هذا الخلاص الذي أعطانا إياه" سلام" هذا العالم : إني جئتُ لأُلقي ناراً على الأرض وما أريدُ إلا اضطرامها!... أتظنون إني جئتُ لأُلقيَ على الأرض سلاماً أقول لكم كلا بل شقاقاً (لو١٢ ٤٩). بالتّأكيد، لا يُدافع يسوع عن الحرب أو عن القسمة، ولكنه يُعلن ببساطة أن الخطيئة ، التي جاء لكي يُدمّرها، "ستُدافع عن نفسها" و"ستُمارس سلطة قاسية "على جميع الذين يتبعون يسوع. ولا يوجد قاسماً مشتركاً بين أسلحة الذين يدعوهم لإتباعه لبناء السّلام في العالم والبشر. تُدعى هذه الأسلحة : إيمان، أمل ولكن زيادة عن ذلك، الإحسان، أي محبّة الله ومحبّة القريب. المقصود إذاً محبّة قريبه بفعل محبة الله.محبة الله هذه، تتخطّى بكثير رؤيتنا البشريّة الخاصّة. بطريقة طبيعية، سنتحدّد جيداً لمحبّة القريب الواحد الذي هو مثلنا، أي الذي لديه نفس لون البشرة، نفس الثقافة، نفس الديانة، أو الذي، حتى ولوكان مختلفاً، يوجد في زاوية أخرى من العالم، إذ من السّهل جداً محبّة شخص لا يُزعجنا أبداً في حياتنا اليومية... ما عدى عن ذلك، وكما يُعبّر يسوع عنه بوضوح في مثال ألسّامري الصّالح( ألسّامري، هذا الغريب ذي الدّيانة المضّطهدة من اليهود)، أعلن الله السّلام من خلال يسوع المسيح بظهوره إله الجميع(مسيحيون، مسلمون، يهود أو وثنيون،... وأيضاً الذين هم بدون ديانة) : فأي من هؤلاء الثلاثة تحسبه صار قريباً للذي وقع بين اللصوص ؟ قال الذي صنع إليه الرحمة

 فقال له يسوع امض فاصنع أنتَ كذلكَ(لو١٠ ٢٩-٣٧). المسيح هو خلاصنا : من خلال عطائه الخاص، يجلب المسيح السلام بين جميع البشر :
لأنه هو سلامنا هو جعل الاثنين واحداً ونقض في جسده حائط السياج الحاجز أي العداوة(اف٢ ١٤).ولنذهب أبعد من ذلك وأعلى بكثير أيضاً : يسمح المسيح لكل مؤمن، مثبتاً بعطاء نفسه على الصليب، أن يكون مصالحاً

مع الله وأن يجد مجدّداً هذه الوحدة الحميمة بينه وبين الله ، الضّائعة مع سقوط آدم. لقد أحدثت خطيئة أهلنا الأول فسخة بين الإنسان وخالقه. ومن خلال خطيئته، ابتعد الإنسان عن الله، محدثاً مسافة أبديّة بينه وبين الله. يجب الذّكر أنّ في جميع الدّيانات اللامسيحية، وأيضاً في العهد القديم، تُظهر العبادة الإلهية دائماً المسافة التي تفصل الله عن مؤمنيه( فستر موسى وجهه إذ خاف أن ينظر إلى الله(خر٣ ٦)). ولكن، من خلال تجسّده وتضحيته، اقترب الله منا. عندما دنت ساعة يسوع، لم يُنشقّ حجاب الهيكل فقط(إذ لم يعُد يوجد شيئاً لاختبائه)، بل بنى الله مسكنه فينا : إن أحبني أحد يحفظ كلمتي وأبي يُحبه وإليه نأتي وعنده نجعل مقامنا *  بإمكاننا إعادة القراءة مجدّداً وبفائدة من الفصل الثاني، المقطع المعنون" السلام المسيحي". (يو١٤ ٢٣).

 أخيراً، ومن خلال قيامته، يُعيد يسوع تأهيل الإنسان في وضعه البشريّ الأوّل، ويرفعه لوضع ابن الله : لكن الله بكونه غنياً بالرحمة ومن أجل كثرة محبته التي أحبنا بها حين كنا أمواتاً بالزلات أحياناً مع المسيح فإنكم بالنعمة مخلصون وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع(أف ٢ ٤-٦).

 سلام المسيح : عندما غلب الحزن على التّلاميذ الذين سيفترقون من معلّمهم، طمأنهم يسوع : السلام أستودعكم سلامي أُعطيكم (يو١٤ ٢٧). مع كل ما دُوّن في الأعلى، نعي جيداً أن سلام المسيح مختلف تماماً عن سلام هذا العالم. يُحدّد يسوع أن هذا السّلام ليس مرتبطاً بعد الآن لوجوده الجسدي، بل بانتصاره على العالم. منتصراً على الموت، يُعطي يسوع، مع سلامه الرّوح القدس والسّلطة على الخطيئة: خذوا الرّوح القدس من غفرتم خطاياهم يُغفرُ لهم...(يو٢٠ ٢٢-٢٣). وأنا أيضاً الّذي أقرأُ هذه الأسطر، ألم لأشعر يوماً، بخروجي من كرسي الاعتراف، هذا العزاء الكبير، هذا السّلام الدّاخلي العميق" المُتناسب عكساً"" لوزن" الخطايا المعترفة؟ على الأرض، الكنيسة هي المكان، العلامة ومصدر السّلام بين الأمم، لأنّها هي جسد المسيح وموزّعة الرّوح القدس. لذلك، لا تترّدد الكنيسة لدعوة المؤمنين، في نهاية كلّ قدّاس، بالّذهاب في سلام المسيح.

 السلام الأخروي : أخيراً، وحده العرفان العالمي لسيادة المسيح، من خلال جميع الكون، سيستقر السلام النهائي والعالمي. بانتظار هذا اليوم الأخير، طالما الخطيئة ليست ميتة في كل كائن، يظل السلام خيراً يجب إعطائه وبنائه دوماً من قبل كل فرد منا.

لنهتم الآن لثمر آخر من الروح القدس: الفرح...

أفراح الحياة

 بما أنّها هبة من الله، تكون أفراح السّلام سليمة بأساسها. لا يُدينُ الله إلا الأفراح المُنحرفة، التي نتبعها بصنعنا للشر(مثل٢ ١٤)
، وخصوصاً الفرح السّيئ الذي يُحدثه شقاء العادل لأعدائه : فيقول عدوي قد قويت عليه ويبتهج مضايقي إذا زللت(مز١٢ ٥).

 في العهد القديم، يجعل الله من أفراح الحياة البشرية عنصراً من وعوده، ويلعن الخيانة بحرمانها. في أفراح الحياة البشرية، نجدُ عدة درجات : هناك الفرح المتواضع الذي يجده الإنسان في ثمر عمله، فرح الغذاء والشّرب بتمضية وقت ممتع، شرط عدم الإفراط ؛ تسمحُ هذه الأفراح للإنسان بنسيان ألآم الحياة. هناك أفراح الأعياد الصّاخبة. وهناك أيضاً أفراحاً أخرى، حميمة جداً لدرجة أنّنا لا يُمكننا قولها للآخرين. هناك أيضاً فرح القلب لكلمة لطيفة أو نظرة عطف معطاة أو ممنوحة. أما بالنّسبة لفرح المرأة، الّذي بفضل نعمتها وفضيلتها، تغمر زوجها، فهي صورة أفراح الحياة الكبيرة: وكسرور العروس بالعروس يُسر بك إلهك(أش٦٢ ٥).

ولكن هناك أيضاً أفراحاً أخرى، تتخطّى أفرح الحياة : هي أفراح الإنجيل والحياة الجديدة.

فها نذا أُبشركم بفرح عظيم لجميع الشعوب : مخلص

يُعلن يسوع المسيح فرح الخلاص للوضعاء ويُعطيهم إيّاه من خلال تضحيته.

 فرح الخلاص المعلن للوضعاء : إن فرح الخلاص مدوّن بالأسلوب الأكثر حساسية في إنجيل القديس لوقا.
يبدأ في بشارة الملاك لمريم : السلام عليك يا ممتلئة نعمة الرب معك(لو١ ٢٨). تتواصل مع ارتكاض المخلص بالفرح في أحشاء أمه(لو١ ٤٤). وكجواب لهذا الفرح، تُعظم مريم الرب، وتبتهج روحها بالله مخلصي (لو١ ٤٦-٤٧). وعند ولادة يسوع، طمأن ملاك الرّب الرعاة فقد( خافوا خوفاً شديدا) قائلاً لهم : لا تخافوا فهآ نذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعوب : قد وُلدَ اليوم مخلص...(لو٢ ١٠-١١).

 إن ملكوت الله موجود الآن في يسوع ؛ إنها بداية تبشيره على طرق الجليل : قد تم الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل(مر١ ١٥).
إن يسوع هو الزّوج الذي يُفرحُ صوته المعمدان : من له العروسة فهو العروس وأما صديق العروس الواقف يسمعه فهو يفرح فرحاً لصوت العروس ففرحي قد تم(يو٣ ٢٩). يُحذّرنا يسوع : أن لا نضع فرحنا في سلطة عجائبية التي يُمكن أن يُنعمَ عليها أيّا من الأفراد، ولكنّه يُشير انتباهنا حول سبب الفرح الحقيقي...ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح (الشريرة) تخضع لكم بل افرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السماوات(لو١٠ ٢٠). من جرّاء هذا الحدث، يُشير يسوع إلى هذه الضّرورة الملحّة للبحث عن ملكوت الله فوق كلّ شيء : يُشبه ملكوت السماوات كنزاً مُخفى في حقل وجده رجل فخبأه ومن فرحه به مضى وباع كل شيء له واشترى ذلك الحقل(متى١٣ ٤٤). فرح الروح القدس، ثمر الصليب : يُعطي يسوع ، الّذي يفرح بما يكشف له ألآب من خلاله للأطفال(لو١٠ ٢١)،يُعطي حياته لهؤلاء الصّغار، أصدقائه، لكي ينقُلَ لهم الفرح الذي مصدره هو محبّته : إن حفظتم وصاياي، ثبتم في محبتي... كما أن حفظتُ وصايا أبي وأنا ثابت في محبته...(يو١٥ ٩-١٥). من خلال الصّليب، يتّجه يسوع نحو ألآب ؛ على التّلاميذ أن يفرحوا إذا كانوا يُحبّونه : لو كنتم تُحبوني لكنتم تفرحون بأني ماضٍ إلى ألآب(يو١٤ ٢٨) ولو فهموا هدف هذا الرّحيل : في انطلاقي يسراً لكم لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المعزي ؛ ولكن إذا مضتُ أرسلته إليكم(يو١٦ ٧). بفضل هذه الهبة، سيعيشون من حياة يسوع : في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم في وأنا فيكم (يو١٤ ٢٠). وبما أنّهم سيطلبون من ألآب باسم يسوع، فسيحصلون على كلّ شيء من ألآب. عندها سيتحوّل حزنهم إلى فرح، سيكون فرحهم كاملاً ولن ينزعه أحد منهم(يو١٤ ١٣وتابع ؛ يو١٦ ٢٠-٢٤).

الفرح الحقيقي

 إن كان هنالك مقطعاً، في كتاب التّكوين هذا، يقتدي أن يكون مسموعاً بآذان إيمان، فحتماً هو هذا. يُضلّل دائماً التّعريف الّذي يمنحه فرنسيس للفرح الحقيقي في نهاية البيان الذي يُعطيه للأخ ليون( فيوراتي٨ التي ليست في النهاية إلا إخراجاً للتوصية ٥)،الذي يقرأه للمرة الأولى ! بإمكاننا (بل علينا) مع ذلك تقريبه من التّطويبة الأخيرة المعلنة من قبل المسيح : طوبى لكم إذا أبغضكم الناس ونفوكم وعيروكم ونبذوا اسمكم نبذ شرير من أجل ابن البشر. افرحوا في ذلك اليوم وتهللوا فهوذا أجركم عظيم في السماء...(يو٦ ٢٢-٢٣). بالنسبة لفرنسيس، ليس الفرح الحقيقي إذاً في مثال القداسة الذي يُعطيه الأخ الأصغر. وهو ليس أيضاً في الشفاءات العجائبية التي بإمكان الأخ الأصغر وبفضل نعمة الله، أن يُفيد البشرية ، أو أيضاً في فعل طرد الشياطين. كما أيضاً، لا يسكن الفرح الحقيقي في معارف جميع الأشياء على الأرض والسماء، أو أيضاً في حدث اهتداء الأرض بكاملها لإيمان المسيح ! ولكن يتضمن الفرح الحقيقي في تحمّل بصبر وحبور، متذكّرين ألآم يسوع المبارك ومن أجل محبّته، جميع المصائب التي يُمكن أن تُصيب الإنسان. ويختم فرنسيس للأخ ليون : فوق جميع نعم الروح القدس وهباته التي يمنحها المسيح لأصدقائه، هناك نعمة الانتصار على الذّات، وتحمّل بكلّ طيبة لأجل محبّة يسوع، المحن، الشّتائم، الشّين والإنزعاجات ؛ لأنّ من جميع هبات الله الأخرى لا يُمكننا أن نتمجّد بها بما أنّها لا تأتي منّا بل من الله، حسب ما يقول الرسول :" وأي شيء لكَ لم تنله فإن كنتَ قد نلته فلماذا تفتخر كأنك لم تنله
؟"(١ كو٤ ٧). لكن في صليب المحن والحزن، بإمكاننا التمجيد لأن هذا لنا، لهذا السبب يقول الرسول : " أما أنا فحاشى لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح."(غل٦ ١٤).

 سيُقرّ فرنسيس المحن والمصاعب كشروط لازمة لكون خادم العليّ :
لا يُمكن لأحد أن يظن بأنه خادم الله طالما أنه لم يجتاز المحن والتجارب(٢ش ١١٨)، لأن الفرح لا ينتمي إلا للإيمان المجرّب : احتسبوا كل سرور أيها الإخوة أن تقعوا في تجارب مختلفة(يع١ ٢).

المجد لله، هبة الفرح والسلام

 لختام القسم الأوّل من هذا الفصل، فلنتذكّر أوّلا السّبب الوحيد الذي يُذكره موسى، عندما قابل الفرعون من قبل يهوه، حتى يتمكّن الشّعب العبري الخروج من مصر :... ليعبدوني في البرية(خر٧ ١٦) *  بخصوص هذا الموضوع،بإمكاننا إعادة القراءة وبانتباه المقطع المعنوّن" العهد القديم" من الفصل الأوّل من كتاب التّكوين هذا.. ليست هذه الخدمة الإلهية، هذا التّمجيد من العليّ، إلا تجسيداً مسبقاً للعهد الجديد فقط، ولكنّها أيضاً تجسيد مسبق للحياة الأبدية المولودة من الله. تكشف لنا سيرة الرّؤيا "المظهر"، محدّدة لنا أنّ في هذا التّمجيد الأبدي لن يكون هنالك معبداً، ولا شمساً ولا قمراً، لأنّ" العليّ نفسه والحمل هو *  يُظهر الفعل، المُصرّف في المفرد في نص الرّؤيا( بينما هناك شخصين مذكورين كفاعلين للفعل) أنّ ألآب والابن لا يُشكّلان إلا واحداً. معبده"، وهذا للتعبير أن تجديد الأزمان المسيحي هو الخلاص المعلن من الله : وجاءني واحد من الملائكة السبعة... وكلمني قائلاً : هلم فأُريكَ العروس امرأة الحمل. وذهب بي في الروح إلى جبل عظيم عال وأراني المدينة المقدسة أورشليم *  المقصود عن أورشليم" من فوق" وليس عن المدينة. تبقى هذه الأخيرة، وستبقى مدينة أرضية.رغم كل التقدير لها، فإننا مدعوون لغزو أورشليم السماوية والتكاثر فيها وليس أورشليم الأرضية. نازلة من السماء من عند الله(رؤ٢١ ٩-١٠). ولم أر فيها هيكلاً لأن الرب الإله القدير والحمل هما هيكلها. ولا حاجة للمدينة إلى الشمس ولا إلى القمر ليُضيئا فيها لأن مجد الله أنارها ومصباحها الحمل(رؤ٢١ ٢٢-٢٣). إذاً سيكون، لكلّ شخص صالح، الفرح والسّلام الإلهين الأبديين، ويا له من سلام ! ويا له من فرح ! لأن التّجسّد *  إن تعظيم ألآب من خلال الابن، السلام والفرح هما، من خلال التجسد، مذكورين سابقاً : المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام لجميع البشر(لو٢ ١٤)، و لا تخافوا فهآ نذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعوب : قد وُلدَ اليوم مخلص...(لو٢ ١٠-١١). وتضحية ابن الله *  إن تعظيم ألآب من خلال ابنه، السلام والفرح هما، في إنجيل القديس يوحنا، ثمار ألام المسيح وقيامته : بالنسبة لتمجيد ألآب يو١٣ ٣١-٢ ؛ ١٤ ١٣ ؛ ١٧ ١ ؛ للفرح : يو١٦ ٢١-٢٢ ؛ ٢٠ ؛ للسلام : يو١٤ ٢٧ ؛ ١٦ ٣٣ ؛٢٠ ١٩ يجعلاننا مشاركين في الطّبيعة الإلهيّة(٢بط١ ٤)." إذأً هذا هو السّبب الذي من أجله يتجسّد الكلمة وصار إنساناً وابن الله، ابن الإنسان" ." لكي يتمكّن الإنسان، بدخوله في اتّحاد الكلمة وبحصوله هكذا على البنوّة الإلهية، أن يُصبح ابن الله *  القديسة أيرينه ، المعاهدة ضد البدعين ٣ ١٩ ١. لأن ابن الله أصبح إنسانا لكي نصبح إلها *  opusc.57 in festo Corp. Chr 1. القديس توماس من أكين، ". ويختم مستقبل الرّؤيا : وسمعتُ صوتاً عظيماً من العرش قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس وسيسكن معهم ويكونون له شعباً والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم. ويمسح الله كل دمعة من عيونهم ولا يكون بعد موت ولا نوح ولا صراخ ولا وجع لأن ما كان سابقاً قد مضى(رؤ٢١ ٢-٤).

لا تخافوا

 بما أن الألفة الإلهيّة قد فُقدت بسبب خطيئة الإنسان، خاف هذا الأخير من الذي هو على صورته. لا يوجد لهذا الخوف علاقة مع خوف الله المقدّس : قال إني سمعتُ صوتكَ في الجنة فخشيتُ لأني عريان فاختبأت(تك٣ ١٠). إذا كان هذا الخوف يكشف مخافة عقاب قاس( قد يُمكن أن يكون خلاصاً)، فهو يُشارك مع هذا بالمحافظة على "الهوّة الفاصلة" عندما تُرفض صلاة التّوبة من قبل الخاطئ( فاختبأتُ). ليس هذا الخوف مقارناً لمخافة الله المقدّسة التي نعيها في حياة إيمان مميزة. تتوازن هذه الأخيرة مع ثقة الله. من جهة أخرى، عند ظهورات إلهية، تظهر الكلمة الأبوية العطوفة من روح المحبّة : لا تخف ! قال للآباء عند إعلامهم وعوده( تك١٥ ١؛٢٦ ٢٠).
استعملت الملائكة المرسلة من قبل العليّ للكلام مع البشر نماذج مماثلة. وهكذا عندما تحدّث الملاك لزكريا في المعبد : لا تخف يا زكريا (لو١ ١٣). كذلك عند بشارة العذراء : لا تخافي يا مريم( لو١ ٣٠). لا تخافوا (لو٢ ١٠) قال الملاك أيضاً للرعاة قبل أن يُعلنهم عن البشرى العظيمة لولادة المخلص.

 لقد ذكرنا سابقا أن فسخ الألفة هذه بين الإنسان وخالقه ليست دون نتائج في العلاقات البشرية. هي تُحدث خسارة الثقة في شبهي والمخاوف المرتبطة التي تنتج عن ذلك. فالقريب منظور عندها كتهديد وعلي ، قبل كل شيء الحماية منه. رفض محبة الله، هو الخوف من الآخر : يتضمن قلب الإنسان عندها بذور العناصر الضرورية والكافية لزرع حواجز بين البشر، لبناء جدران بين الأمم. عمارات مؤذية هذه الحواجز وهذه الجدران، لأنها تُغذي الحزن، الخيانة، الغيرة، الحسد، السرقة، الجريمة وطبعاً الكثير من عدم الإدراك! ليس أكثر لخلق حروب" بشتى الأنواع".

 أما بالنّسبة لفرنسيس، فسيبني جسوراً للذّهاب لملاقاة الآخر، نحو هؤلاء البرص "من كل الأنواع" الذين يُخيفونني ! في أحداث الحياة، بإمكاننا التّعرف على ملاقاة مع" ثلاث أنواع من البرص"، "أنواع" لها جامع عام وهو نفي الآخر : نفي الأبرص الجسدي، نفي الأبرص الأخلاقي، ونفي الأبرص الرّوحي *  في كتابه المعنون: Gwenolé JEUSSET(ofm) سنُعيد هنا الصفات الثلاث المستعملة من قبل . والحال أننا سنكتشف أن مسعى فرنسيس الأسيزي هو معاكس لهذا النفي. ولكن لنبدأ أولاً.

الملاقاة مع الأبرص الجسدي

 لقد قرأنا سابقاً (في الفصل الأول من كتاب التكوين الحالي) عن الحدث المؤكّد الذي كان سبب اهتداء فرنسيس : الملاقاة مع الأبرص. قبل هذا الّلقاء، كان فرنسيس يعيش في طيش الحياة الجيّدة، الذي لا يُريد خاصة أن يكون منزعجاً من المرض : إذ لما كنت في الخطايا، كانت تبدو لب رؤية البرص مرة جداً (و ف١) ومن جرّاء هذا الحدث، عندما قابل فرنسيس الأبرص، هرب منه مسدود الأنف، خوفاً من الإصابة بالمرض. عندها، جعل أن تكون المسافة الأقصى بينه وبين هذا المريض. وهذا ما كان يحدث في زمن يسوع ؛ كانت ردود الحماية مشابهة :
كان البرص منفييّن من المدينة ومحوّشين في معازل الألم. في هذا الحال، ذهب يسوع للقاء جميع التّعساء الذين يتألّمون في جسدهم( البرص، العميان، مشلولين...) وذهب أبعد من ذلك : يدع المرضى يلمسونه: لأنه كان يشفي كثيرين حتى كان كل من به داء يتهافت عليه ليلمسه (مر٣ ١٠)، فكل من لمسه قد برئ( متى١٤ ٣٦).في شفاء هؤلاء المرضى، نحن أمام ظاهرة واضحة : هناك اللقاء والاتصال الجسدي مع يسوع المخلص. إن الشفاء ممكن وأولاً من خلال أن الله قد اقترب منا بطريقة

عجيبة : لقد تجسّد وصار إنسانا. الحدث الثاني هو أنّ وجود يسوع على الأرض يسمح لجميع المتألّمين بالمجيء نحوه للمسه. من خلال يسوع المسيح، تمرّ العلاقة بين الإنسان وخالقه بلقاء حسّاس جدّاً : يدع يسوع لمسه. ويُترّجم هذا الاتّصال خاصّةً الإلهي بهبة أخرى عجائبية. يسوع، شخص من الثّالوث المقدّس، يُمنحُ كطعام : خذوا كلوا هذا هو جسدي (متى٢٦ ٢٦)؛ (مر١٤ ٢٢؛ لو٢٢ ١٩). أليس مدهشاً أن في حلقة قبلة الأبرص التي عاشها فرنسيس، يُعاد اللقاء- الاتّصال أي الحدث نفسه ، مع ميزة هو أن توزيع الأدوار ليس كما يظهر في الوهلة الأولى؟ في صفحة حياة فرنسيس هذه، ليس الأبرص الإنسان الذي نعتقده : ذات يوم، بينما كان فرنسيس على حصانه، جاء أبرص للقائه(٣ر١١).
إنّ الأبرص الذي جاء لملاقاته، هو صورة يسوع، الفقير والمصلوب، "مجسّداً" في الأبرص الجسدي في هذه السّيرة.هذا ما تقترحه السّير المختلفة، وفي صيغ متعدّدة، كذلك وصيّة فرنسيس : في سيرة الرّفاق الثلاثة، هذا هو الشّخص نفسه الذي يأتي لملاقاة فرنسيس، وليس العكس ؛ في السّيرة الثانية لشيلانو(٢ش ٩)، كما في السّيرة المطوّلة للقديس بونافنتورا(س م١ ٥)، ينتهي شخص الأبرص بالاختفاء من نظر فرنسيس، كما لو كان المقصود بظهور فوطبيعي ؛ في وصيّة فرنسيس( و٢) ، إنّه الله نفسه الذي يقود فرنسيس بين البرص وليس هو الذي يأتي إليهم عفويّاً تجعلنا نكتشف تتمّة السّيرة اهتداء فرنسيس، أيّ شفاءه الخاص. يُعطي للأبرص الذي يمدّ يده مالاً وقبلة، أيّ ليس فقط وسيلة الزّكاة الماديّة، بل أيضاً المحبّة التي ترافقها، متعالية الهبّة الماديّة بإعطائه كلّ قيمتها. كان فرنسيس يجهلها لحين يوم هذا اللقاء، ولكن الأبرص كان هو، بروح عمياء من جرّاء الأنا الخاص. وها هو المسيح يأتي إليه تحت مظهر غير منتظر، يلمسه فرنسيس، وها هو، فرنسيس، يشفي قلبه من البرص : وقد قادني الرب نفسه بينهم، ووثقتُ بهم. ولدى ابتعادي عنهم، تحول ما كان يبدو لي مراً إلى عذوبة الروح والجسد؛ وبعد ذلك، بقيتُ قليلاً ثم هجرت العالم(و٢-٣).

 لا يجب علينا أبداً تقلّل هذه الحلقة من حياة فرنسيس. إذا بدأ هذا الأخير وصيّته ذاكراً هذا اللقاء، فلأنّها كانت محدّدة لتتمّة حياته. كان لقاء الأبرص الجسدي، الذي كان حتّى الآن يُخيفه،مثل الباب الذي لا يُمكنه تجنّبه سامحاً له لانفتاح نحو لقاءات أخرى. بالفعل، لم يكتمل اهتداءه الخاص يوم بدايته : هكذا أعطاني الرب، أنا الأخ فرنسيس، أن أبدأ بالتكفير(و١). في نظر فرنسيس، إن لقاء برص الجسد وخدمتهم بالنّسبة له، بداية اهتدائه( لنتذكر التّوبة= اهتداء). تُعطي تتمّة وصيّته بعضاً من نتائج بداية الاهتداء هذه : إيمان للكنائس، إيمان للكهنة،... طبعاً، ليست هذه الوصيّة سيرة حياة. فليس كلّ شيء مكتوباً. هناك لقاءات أخرى مدهشة استطاع فرنسيس حثّها أو فعلها وليست منقولة، ولكن من ألأكيد أنّ هذا الّلقاء الأوّل مع الأبرص الجسدي سمح له بلقاءات لاحقة مع فئات أخرى من" البرص".

تروي سيرة بروجيا حكاية صغيرة عن حياة فرنسيس ننقلها في الأدنى. ستُدخلنا في اكتشاف الفئة الثّانية من البرص الذين يُخيفون الجميع : الأبرص الأخلاقي. لا يوجد رابطاً بين البرص الأخلاقي والبرص الجسدي، إلا المشابهة في تصرّفات الإنسان ذي الصّحة الجيدة والتقليدي : الخوف من" المريض" ؛ مسافة الحماية التي نُريد وضعها بين" المريض" ونفسنا ؛ الحكم والإعدام لنفي "المريض". باختصار، يجمع هذا الخوف جميع العناصر المطلوبة لخلق فروقات بين البشر وإساءة السلام…

الملاقاة مع الأبرص الأخلاقي

 نقول بسهولة أن الّلصوص والمجرمين هم حثالة المجتمع. عبارة ممتلئة بمعاني ! هي تُرجم بوضوح الاحتقار والرّفض دون ذكر الأشخاص المعنيين. مع ذلك، من يُمكنه التّباهي برغبته حقّا بلقاء لصوص فارّين من وجه العدالة ؟ دون أن ندخل في وظيفة زائر سجن أو بأن نذكر مشكلة الدّمج من جديد( التي هي اقترابات أخرى للأبرص الأخلاقي) سنحمل نظرنا الآن على تصرّف فرنسيس تجاه اللصوص الذين يسكنون الغابات.

 ذات يوم طرح إخوة المحبسة سؤالاً لفرنسيس، سؤالاً يبدو لهم مشكلة وعي حقيقية : هل يجب إعطاء الإحسان للصوص يأتون إلى المحبسة أم لا ؟ بالفعل، إنّ اللصوص، المختبؤن عادةً في الغابات الكبرى، يخرجون أحياناً لسلب المسافرين في السّهول أو على الطّرقات. قال بعض الإخوة : من الخطأ إعطائهم الإحسان، لأنّهم لصوصا يُلحقون الضّرر بالأفراد بشتّى الأنواع. أما الإخوة الآخرين، اعتبروا أن اللصوص يطلبون الإحسان بتواضع ومن جرّاء الضّرورة التي تدفعهم، فيُعطونهم أحياناً، ملحّين عليهم دائماً بالارتداد والتّوبة. يُجيب فرنسيس على هذا السّؤال : إذا فعلتم ما سأقوله لكم، فإني أثق بالله أنّكم ستربحون روحهم. اذهبوا وتزوّدوا بالخبز الطّيب والنّبيذ الجيد، وتوجّهوا نحو الغابات حيث تعلمون مسكن هؤلاء اللصوص واصرخوا : تعالوا أيها الإخوة اللصوص ! نحن إخوة، ولقد جلبنا لكم الخبز الشّهي والنّبيذ الطّيب ! فوراً سيأتون. عندها ستضعون بساطاً على الأرض، مع الخبز والنبيذ وستخدمونهم بتواضع وبفرح. أثناء الطّعام وبعده، ستقترحون عليهم أقوال الله ؛ ثم توجّهون لهم لمحبّة الله هذه الصّلاة الأولى : أنّهم سيعدون بعدم ضرب أي كان وعدم أذيّة أحد. ليست هذه إلّا البداية : لا تطلبوا الكثير في آن واحد، فلن يستمعوا إليكم. سيعد اللصوص بفضل التّواضع والمحبّة اللذان ستشهدون بهما. وفي يوم آخر، بفضل الوعد الذي تعهّدوا به، ستحملون إليهم، عدى عن الخبز والنّبيذ، بيضاً وجبناً، وستخدمونهم كالسّابق. بعد الطّعام، ستقولون لهم : لماذا البقاء هنا طيلة اليوم، التّضوّر من الجوع، التّألم والإساءة رغبة وفعلاً ؟ تخسرون أرواحكم إذا لم ترتدّوا لله. من الأفضل لكم أن تخدموا الله، الذي سيُعطيكم في هذا العالم ما يحتاجه جسدكم، والذي، في النهاية، سيُخلّص أرواحكم. والله، في طيبته، سيوحي لهم بالارتداد، بفضل التّواضع والمحبّة اللذان ستشهدان بهما"(س ب٩٠).

 في هذا السّرد، إنّه أوّلاً ربما هذه التّسمية الغريبة" للأخ اللص" التي نتساءل عنها. يعي فرنسيس، دون نفي فرق وضع حياة" اللص" المحكوم، يعي مع هذا تسمية هذا الأخير" أخي" : تعالوا أيّها الإخوة اللصوص. ويرغب لهذا الأخ ما هو الأفضل له، ليس فقط لجسده (خبز شهي ونبيذ طيّب، بيض وجبن، وحتّى ترف غطاء *  يُعدّ الغطاء هنا ترفاً قد عاتب فرنسيس سابقاً إخوته عليه يوم عيد الفصح أو عيد الميلاد( س ب٣٢-٣٣). )، ولكن خاصّةً ما هو الأفضل لكيانه : خلاص روحه. يظهرهمّ خلاص روح هذا" الأخ اللص" جيّداً كأنّه نيّة فرنسيس الأولى (فهذا يتكرّر مرّتين في النّص). ولكن في السّرد، ترتسم نيّة فرنسيس الثّانية : جمع إخوته الخاصّة لتكوين أخوّية تتخطّى حدود الصّالحين البسيطة. يجد الإخوة، من خلال وضعهم "كرجال صالحين"، في ناحية "الأخلاق الجيدة". في هذا السّرد، يتردّدون بالظّهور محسنين مع جميع الذين، هم، مثلهم، يتواجدون في ناحية" الأخلاق السّيئة". زد على ذلك،إذا استطاع فرنسيس على إظهار أنّ اللصوص هم أيضاً إخوة، تعالوا أيها الإخوة اللصوص، فهو يُذكّر رفاقه عن وضع حالة الرّوح التي عليهم إحياءها في علاقاتهم مع الآخرين: نحن إخوة. إنّ ما يُحاول فرنسيس قوله لإخوته، هو إذا أنّهم أرادوا رؤية تحوّل قلب العالم بتوجيهه نحو الأجمل، الخير والإصلاح، فلا يجب الانتظار أن يقوم أشخاص ذي ناحية الأخلاق السّيئة بالخطوة الأولى. ولكن يجب الذّهاب بأنفسنا لملاقاتهم : نحن إخوة ولقد جلبنا لكم الخبز الشهي والنبيذ الطيب. عندما يتمّ الاتّصال، علينا أن نكون أيضاً صبورين في التّغيرات المنتظرة : ليست إلا البداية : لا تطلبوا الكثير في وقت واحد، فلن يُصغوا إليكم. إنه أخيراً تصرف فرنسيس الإنجيلي الحقيقي الذي سيُعيد السّلام وسيُعطي الفرح. ويتنبّأ فرنسيس، مرّتين اثنين، أنّ اللصوص سيتوبون بسبب تصرّف الإخوة : بفضل التّواضع والمحبة اللذان ستشهدان لهما.

 وكيف عدم ذكر تطبيق الإنجيل الواقعي من قبل فرنسيس. أليست رؤيته للعلاقة تجاه الأبرص الأخلاقي (اللصوص، ذئب غوبيو...) أليست منطبقة على تصرف يسوع المسيح مع زكّا مثلاً ؟ يا زكا، أسرع انزل، فاليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك.أليست ردة فعل إخوة فرنسيس (وأيضاً ربما ردة فعلنا) ؟ أليست مطابقة لمشنّعي المسيح ؟ فلما رأى الجميع ذلك، تذمّروا قائلين : إنه حلّ عند رجل خاطئ. لكن سواد روح مريضة لا تُخيف يسوع أو تلميذه: اليوم قد جعل الخلاص لهذا البيت، لأنه هو أيضاً ابن إبراهيم. سنستعمل كلمة يسوع هذه كمقدمة للقاء فرنسيس الأسيزي مع درجة الأبرص الثالثة...

الملاقاة مع الأبرص الروحي

 كيف بإمكاننا فهم كلمة المسيح هذه؟ لأنه هو أيضاً ابن إبراهيم. هل يجب علينا الاعتبار أن أصول زكا السلفية، إبراهيم بالمصادفة، تُشكل سبب خلاصه ؟ من الواضح لا! تكفي قراءة بسيطة للسرد لتظهر أن زيارة يسوع هي سبب اهتداء زكا. إن جملة هو أيضا ابن إبراهيم إذاً هي أولاً موجهةً لاستجواب السامعين، في وقت لا يرون إلا زكا الخاطئ. يدعو يسوع مستجوبيه لتغيير نظرتهم عن قريبهم. ولكن هذه الكلمة هي أيضاً موجّهة لبشر جميع الأزمان. من خلالها، يدعونا يسوع لتغيير نظرنا عن" الآخر المؤمن". في زمن فرنسيس،(كما أيضاً ربما اليوم)، تتحدّد ذروة الإحسان ومحبّة القريب باعتبار اللص المخيف كأخ. ولكن هذا الأخ الضّائع، أحياناً، ينتمي لنفس الجنس البشري، لنفس العرق، لنفس الثقافة الدينية. هو هذا الخروف الضائع الذي يأتي ويعود إلى الحظيرة, ولكن يجعل صغر الإنسان وخطيئته جعلتا ،في زمن الصّليبين، أنّ المؤمن الآخر، الذي لا يؤمن مثلنا، يكون مستبعداً عن حدود الأخويّة البشريّة. لمعاصري فرنسيس، من غير المعقول التّآخي مع الخائن. لا نتآخى مع الشيطان. بالنسبة لمعاصريهن لدى المحبّة إذا حداً، حدوداً : وهي سكان المؤمنين الصالحين. أما الخائن، فهو منفي للأبد ! هنا أيضاً، زائلاً المحرمات والحواجز، يذهب فرنسيس لملاقاة الذي يوجد خارج حدود المحسنين هذه. لنتوقف هنا لوهلة حول هذا الحدث المهم : إذا يتدخل القديس فرنسيس الأسيزي ماديّاً للذّهاب إلى أقصى العالم، فهذا الإجراء نحو الآخر لا يتحدّد فقط بالإجراء المادي. في روحه وفي قلبه، يتخطّى فرنسيس حدوداً ينوي القليل من معاصريه بعبوره. هذا ما يُذكرنا به فرنسيس : وأنتم جميعاً إخوة فإن معلمكم واحداً وأنتم جميعاً إخوة(متى٢٣ ٨-١٠؛ ق٢٢ ٣٣-٣٥).نحن، المسيحيون، إخوة البشر، جميع البشر، أكانوا مسحيين،مسلمين، كافرين... . نحن إخوة الجميع مثل المسيح الذي أصبح أخاً للجميع. بالنّسبة له، يُشكّل الذهاب لملاقاة الآخر كإتباع خطى المسيح، وذلك دون حساب" مرجع استثمار" : أخذتم مجاناً، أعطوا مجاناً( متى١٠ ٨).هذا العطاء المجاني للآخر هو ضمان انتصار الله فينا. وعندما سيكتب فرنسيس هذا القانون النهائي بعد سفره إلى الشرق فلا يوجد جامعاً مشتركاً مع بعض هذه الأسطر التي تروي طريقة سفره في العالم مع أهداف عسكرية أو سياسية، أو أهداف صليبية. فقط عيش هبة الله المجانية : إني أنصح، وأُنبه، وأُناشد إخوتي في الرب يسوع المسيح : عندما يذهبون في العالم، فليمتنعوا عن الخصام، والمشاجرة بالكلام، وإدانة الآخرين. بل فليكونوا ودعاء، ومسالمين، وبسطاء، وحلماء، ومتواضعين، وليكلموا الجميع بصدق، كما يليق... وأي بيت دخلوا، فليقولوا أولاً : سلام لهذا البيت.(٢ق ٣ ١٠-١٣).

رسولو السلام

البند١٩.

.

سيبحث رسولو السّلام الذين عليهم بنائه دوماً، في الحوار، بواسطة طرق الوحدة والوفاق الأخويّن، واثقين بوجود البذرة الإلهيةّ في الإنسان وفي قوّة تحوّل المحبّة والسّماح *  قانون ليون الثالث عشر،٢ ٩؛٣ ر١٤ ٥٨. .

سيعمل مرسلو الفرح الحقيقي، في شتّى الظّروف وبحيويّة لحمل الفرح والرّجاء للآخرين *  ت ٢١؛ ١ق ٧ ١٥. . سينتظر أعضاء المسيح المقيم، الذي يُعطي معناه الحقيقي لأختنا الموت، في السّكينة، اللقاء النهائي مع ألآب *  قانون عن الكنيسة في عالم هذا العصر، ٧٨ ١-٢.: "... ليس السلام غياباً طاهراً للحرب ولا يتحدد فقط لتأمين قوات معاكسة؛ II فاتيكان وهو لا يأتي من سيطرة استبدادية، ولكن نُعرف عنه حقيقة كفعل عدل(اش٣٢ ١٧). هو ثمر أمر مدون في المجتمع البشري من خلال إلهه المؤسس، والذي يجب عليه أن يتحقق من قبل أفراد لا يكفون دائماً للسعي لعدالة أكثر كمالا. بالفعل، رغم أن الخير المشترك للجنس البشري هو منظم حقاً في حقيقته الأساسية من خلال القانون الأبدي، في متطلباته الواقعية، فهو خاضع لتغيرات مستمرة مع الزمن: ليس السلام شيئاً حاصلاً مرة واحدة، ولكن علينا بنائه دائماً. وكما أيضاً إن الإرادة البشرية ضعيفة ومجروحة بسبب الخطيئة، يتطلب إنجاز السلام من كل فرد منا التحكم المثابر لشهواتنا وتيقظ السلطة الشرعية. .

حاملو السلام الذين عليهم بنائه دوماً

نستند أحياناً لفرنسيس هذه الصّلاة الجميلة للسّلام. هي كطريقة استعمال لبناء السّلام.

يا رب، اجعل مني أداة سلمكَ
فأقر الحب محل البغض
وأضع الغفران محل المعصية
والوئام محل الفُرقة
والحقيقة محل الضلال
والإيمان محل الشك
والرجاء محل القنوط
والنور محل الظلمات
والفرح محل الحزن.
إجعلني أنشد سكب العزاء، أكثر من نشداني العزاء لنفسي
وأن أفهم الآخرين أكثر من حملهم على فهمي
وأن أُحبهم أكثر من حملهم على حبي
فالإنسان ينال بعطاء ذاته
 ويجد نفسه عندما ينساها
ويظفر بالصفح عندما يُسامح
وبالموت ينهض إلى الحياة الأبدية.

 للوهلة الأولى، نتساءل في هذه الصّلاة عن طبعها الإيجابي والحيويّ العازمين. إيجابي، لأنّنا لا نجد طلبة سلبية، مثل : إجعلني يا رب بأن لا أشنّ الحرب، ولكن بالعكس: أقرّ الحبّ محل البغض. حيويّ، لأنّ المصلّي يطلب بأن يكون ممثّلاً وليس فقط مشاهداً : أقرّ الفرح محل الحزن... كلّ واحد منّا، وتجاه اللقاءات التي تُعطينا إيّاها الحياة، علينا أن نُطبّق واقعيّاً طريقة الاستعمال هذه لبناء السّلام. أنكون كخدّام صالحين ومؤمنين (متى ٢٥ ٢١-٢٣) الذين يقبلون بتواضع بإثمار المواهب التي وكّلها لهم الله : حاملو السلام، لنعي بنائه على الدّوام...

سيبحثون من خلال الحوار، على طرق الوحدة والوفاق الأخوي

 يوجد في قانون حياتنا، بضع جمل بإمكاننا الاعتقاد أنّها تمرّ دون تعليق. والحال أنّ الذي يبدو شيئاً بسيطاً وسهل الفهم( البحث عن طرق الوحدة والوفاق الأخوي من خلال الحوار) ليس ظاهريّاً سهل العيش. إن كان يوجد حاجة للإقناع، فيكفي رؤية الحدث العالمي وأحياناً ببساطة أكثر، رؤية طريقة عيشنا الخاصة في العائلة للإدراك أنّ البحث عن طرق الوحدة والوفاق الأخوي من خلال الحوار، "هو سهل القول" لكن" ليس سهلاً فعله". لقد أظهر لنا القديس فرنسيس الأسّيزي، من خلال لقاءاته مع الأبرص، اللصوص والسّلطان، أنّ من أجل الحوار مع الآخر، من الضّروري أحياناً القيام بالخطوة الأولى. يجب الذّهاب لملاقاة الآخر دون الانتظار أن يقوم هذا الأخير "بالخطوة الأولى" الشّهيرة. إن انتظرنا بأن "يتحرك" الآخر لكي نتحرك بأنفسنا، من المحتمل أن يطول انتظارنا ويتحوّل الحوار" لحوار" أصم أبكم ! في هذه الحالة، يدعونا قانون حياتنا لكي نكون حيويين : علينا البحث إذاً. إنّه الإجراء التّطبيقي المقترح لنا من خلال قانوننا. أمّا بالنّسبة للحوار، فلا نتخيل أنّه يتحدّد فقط ضمن الحوار الشّفهي. في لقاء فرنسيس مع الأبرص، نُلاحظ أن الحوار يتمحوّر من خلال حركات ونظرات. كم من أشياء يُمكن أن تُقال، ببساطة من خلال الحركات والنّظرات! مع اللصوص، يتمركز حوار حقيقي، ولكن هنا أيضاً، مع هذه الرّغبة لبناء عالم أخوي وإنجيلي : ستخدمونهم بتواضع وفرح،... ستقترحون عليهم أقوال الله،... ستوجهون لهم محبة بالله،... وليست إلا البداية،... يُحدد لنا فرنسيس! ويا له من مثال نموذجي هذا اللقاء مع السّلطان. رغم الاختلافات اللغوية، الثقافية، الدّينية، ورغم المضمون السّياسي- الدّيني- العسكري الذي يُسيطر، هناك رجلين اثنين، القديس فرنسيس والسّلطان *  هل نتجرأ على اقتراح العبارة التالية : القديس فرنسيس والقديس مالك الكميل ! سلطان يرجو محاوره فرنسيس لأخذ جميع الهدايا وتوزيعها على المسيحيين الفقراء والكنائس( س م ٩ ٨)، لفعل هذا أليس رجلاً ينتمي لله ؟ يتحدثان، يتفاهمان، يتحاوران، يتّفقان أخويّاً في حين أنّ كلّ شيء يُفرقهما.

 يقترح علينا البند ١٩ من قانوننا عن ما هيّة الاستعمال الذي يجب أن يُعمل به من خلال الكلمة : ليس مونولوجاً بل حواراً، أي مناقشة هادفة للعثور على ميدان وفاق. يتطلّب هذا الحوار استماع الآخر والشّجاعة الودودة للبحث عن طريق السّلام من خلال كلمة تكون بنّاءة. إذ يجب أن تُستعملَ هذه الكلمة عن بصيرة. يُحدّد فرنسيس، واعياً بالمصاعب التي يُمكن للإنسان أن يُحدثه من خلال الأنا في العلاقات بين الإخوة، ومن جرّاء النّتيجة، من الاستعمال السّيئ للكلمة، يُحدّد بحزم هذا الاستعمال : فليحذر جميع الإخوة من الافتراء والمشاجرة، بالكلام. لا بل فليجتهدوا في التزام الصمت، كلما من عليهم الله بهذه النعمة. ويجب أن لا يتخاصموا فيما بينهم، أو مع الآخرين، بل فليحرصوا على الرد بتواضع قائلين : أنا عبد بطال. ولا يغضبوا، لأن كل من يغضب على أخيه يستوجب حكم القضاء ؛ ولا يُهينوا أحداً. ولا يتذمروا، ولا يغتابوا الآخرين، لأنه مكتوب : النمامون والمغتابون يُبغضهم الله. وليكونوا بسطاء، وليبدوا دائماً الحلم لكل البشر. ولا يحكموا ولا يُدينوا. وكما يقول الرب، عليهم ألا يُراقبوا أصغر خطايا الآخرين ؛ بل ليكفروا في خطاياهم، في مرارة نفوسهم...( ١ق١١).

 أخيراً، المقصود البحث عن طرق الوحدة والوفاق الأخوي. لماذا الواحد دون الآخر؟ طبعاً إنّ الوحدة هي المثال للبحث عنها. هي حقاً ذروة المسعى للسّلام : لا يُشكلان إلاّ واحداً. مع هذا، يقترح ربط النّسق" و" المدوّن بين الوحدة والوفاق الأخوي أنّه لا يجب تضحية الوفاق الأخوي للحصول على الوحدة. بالفعل، باستطاعتنا دائماً الحصول على وحدة مخادعة عندما نتضهد إخوتنا، ولكن أهي حقاًّ وحدةً. بخصوص هذا الموضوع، يُعطي السّلام الرّوماني للإمبراطورية وحدة مخادعة، على الأقل سياسية، ولكن هل كان الوفاق الأخوي موجوداً في العلاقات بين الشّعوب التي يُشكّلها ؟ بين فرنسيس والسّلطان، من الثّابت أن لا أحد بينهما استطاع اهتداء الآخر. على هذا المستوى،لا يوجد وحدة. مع هذا، رغم اختلافهما، استطاع الواحد والآخر الاتّفاق أخوّياً، وأنّ هذا الوفاق الأخوي هو الذي يبني ويُنتج السّلام. بدورنا، لنعي حمل هذا السّلام وبناءه في العالم.

واثقين بالبذرة الإلهية في الإنسان

 لماذا عدم استعمال عبارة أكثر بساطة : واثقين بالإنسان ؟ إنّ للإنسان قدرات ! إذاً لماذا لا نثق به وحده ؟

 منذ البدء، تُطرح مشكلة الثّقة مع الله. بمنعه للإنسان ثمر شجرة المعرفة ، يدعو الله الإنسان للاعتماد على نفسه للتمييز بين الخير والشرّ( تك٢ ١٧).
لكن الرّجل والمرأة فضّلا الاعتماد على مخلوقة. بتصرّفهما هذا، وَعَيا مع الخبرة على الكذب (تك٣ ٤ وتابع؛ يو٨ ٤٤؛ رؤ١٢ ٩). لقد تذوّقا كليهما إلى ثمار ثقتهم الباطلة المرّة، وخاصة الخوف من الله. على العكس، إنّ الوثوق بالله، هو الإيمان بكلمته، وهو اختيار حكمة الله والتّخلي عن الوثوق بحكمنا الخاص( مثل٣ ٥). من جهة أخرى، يدعونا قانوننا للوثوق بالبذرة الإلهيّة عند الإنسان، أي بمبدئه، مصدره، قضيته الأصليّة : الله الخالق، الرّحيم والمخلّص. تقول هذه البذرة الإلهية لكلّ واحد منا: لقد خلقتكَ بمحبّة؛ لقد خلقتكَ لكي تُحب ؛ لقد خلقتكَ لكي تكون مشاركاً في حياتي الإلهية. إذاً على كلّ واحد منّا أوّلاً، البحث عن البذرة الإلهية" الموجودة" فينا والوثوق بها. ولكن عليه الوثوق أيضاً بالبذرة الإلهية "الموجودة" في أخيه، حتى الأبعد منه، الذي سيكون الأكثر بغيضاً من خلال أعماله أو فكره، إذ هو أيضاً قد خُلقَ على صورة الله، وعلى مثاله. إذا تمكنت الخطيئة على تشويه هذه الصّورة في الإنسان، تبقى صورة الخالق رغم كلّ شيء، مطبوعة في روحه. إنّها هي التي يجب أن نبحث عنها دوماً، في أخينا وبثقة. إذا أعدنا قراءة مقطع فرنسيس وإخوة المحبسة، الذين يتساءلون عن التّصرف الذي يجب اعتماده مع اللصوص، نسمع فرنسيس الأسيزي يُعلن عن ثقته بالله : بسبب التواضع والإحسان اللذان ستشهدان بهما. إني أثق بالله بأنكم ستربحون نفوسهم. ولكن ستقول لي : "إنه القديس فرنسيس الأسيزي ! هو كان قادراً على الأفضل! ولكن أنا، في علاقاتي مع أخي، أو "المزعوم" أخي، بما أنّه آذاني على قدر ما يُمكننا التّخيل، لست قادراً على شيء! لستُ قدّيساً مثلما كان فرنسيس". إذا كان هو رأيكَ، فلا تستسلم بل أسلم أمركَ إلى البذرة الإلهية التي هي فيكَ وصلّي مع القديس فرنسيس الأسيزي، أبانا الذي في السماوات : واغفر لنا ذنوبنا منا نحن نغفر، لمن أساء إلينا : وما لا نغفره كلياً، اجعلنا يا رب نغفره كلياً، لكي نُحب أعداءنا، حقاً من أجلكَ ولكي نشفع لديكَ بتقوى من أجلهم، غير مجازين شراً بشرً ولكي نجهد كي نكون، بكَ، مفيدين في كل شيء( ت أ ٧-٨).

لنثق بالقوة التحولية للمحبة والسماح

 لننتبه، لا يجب إعطاء الثّقة في القوّة( بلا زيادة)( سيكون هذا تناقضيّاً بعض الشيء مع كلّ ما نؤمن به). بل بالقوّة التحولية للمحبة والقوّة التحولية للسّماح. ولكن ما الذي يوجد في فضائل المحبّة والسّماح بإمكانهما تبرير استعمال الصفة قوي وإعلان هذا الفعل : تحولية؟ إنّ المحبّة التي تسكننا لها مصدر وهدف : الله. والسّماح الذي نحن مدعوين إليه له سبباً وهدفاً : الله. وإله المحبّة والرّحمة هو العلّي. إنّ الوثوق بالله، ليس إنكار فعل القوّات السّيئة في العالم. وليس أيضاً النسيان بأننا خطأة. ولكن يتضمن الوثوق بالله التّعرف على قوّة الخالق ورحمته الذي يُريد خلاص جميع البشر ويريد أن يجعل من جميع البشر أبنائه المتبنين في يسوع المسيح. إن لقاء فرنسيس الأسيزي والأبرص هي صورة بارزة لهذه المحبّة وهذه الرّحمة الإلهية اللتين تعطيان. قبل هذا اللقاء الفاصل واعتراف فرنسيس نفسه( و١) ، كان فرنسيس يعيش كما لو أن الله ليس موجوداً : إذ لما كنتُ في الخطايا... وهذا ما نتج : كانت تبدو لي رؤية البرص مرّة جداً. ولكن الله يتدخل في مجرى الأشياء، دون طبل وزمر : وقد قادني الرب نفسه بينهم ، ورئفتُ بهم... وهنا، تحوّل فرنسيس، لدرجة أنّ ما كان مرّاً تحوّل منذ الآن وبالنّسبة له إلى عذوبة الرّوح والجسد. إذاً فرنسيس هو أوّل مستفيد من ثمار محبّة الله. ولكن إنّ قوّة التّحوّل الدّاخلية هذه تحمل ثماراً جيدة أخرى. حتماً قرب البرص، بإمكاننا بسهولة فهمه، ولكن ليس فقط. لإعادة لأحد الأمثال المنقولة في الأعلى، يؤثّر هذا التّحوّل القوي للمحبّة والسّماح مباشرة على إخوته الذين يتساءلون عن التّصرف الذي يجب اعتماده تجاه اللصوص، ويؤثّر حتّى على اللصوص إذ يتوبون في النهاية. وتشهد الحلقة مع السلطان أنّ المحبّة والسّّماح يجعلان احتمال وفاق أخوي قد يبدو ظاهرياً مستحيلاً!...

 بمثابة ختامة *  بإمكاننا إعادة قراءة المقطع المعنون" المصالحة، علامة رحمة ألآب المفضلة" في الفصل الرابع وأيضاً "خلق شروط حياة جديرة للخليقة المخلصة من المسيح" في الفصل الثامن. وبإمكاننا إعادة القراءة مجدداً وبفائدة الرسالة البابوية( السلام بين جميع الأمم) لحبرنا الأعظم يوحنا الثالث عشر ؛الرسالة البابوية( الله محبة )لحبرنا الأعظم بندكتوس السادس عشر ؛ الرّسائل للسّلام التي أهداها الباباوات للعالم بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للسلام (١ من كانون الثاني من كل سنة). ، لننقل هذه العظة من القديس فرنسيس الأسيزي المستخرجة من سيرة الرفاق الثلاثة( ٣ ر ٥٨). هي ترسم بروعة عظة القديس بولس في رسالته إلى أهل روما : لا تنغلب للشر بل اغلب الشر بالخير(روم ١٢ ٢١): يقول فرنسيس : تُعلنون السلام من خلال أقوالكم. فلتكن أيضاً في قلوبكم. لا تُصبحوا لأحد فرصةً للغضب أو فضيحة، ولكن لتحث عذوبتكم جميع البشر للسلام، للطيبة والاتفاق. عالجوا الجرحى، ضمدوا الكسرات ، نادوا الضائعين، هذه هي دعوتكم. قد يبدو لنا الكثير أشراراً ولكن سيصبحون تلاميذ المسيح.

 سيستعمل مرسلو الفرح الحقيقي بحيويّة، وفي شتّى الظّروف، لحمل الفرح والرّجاء للآخرين

 لنبدأ برسم الشّبهات بين الأسطر السّابقة التي تُحدثنا عن السّلام والتي تُحدثنا الآن عن الفرح. في هاتان الحالتان، من المقصود حمل شيء ما : حاملو السّلام في الحالة الأولى ؛ حمل الفرح للآخرين في الحالة الثانية. يُشير الفعل حمل إلى الوضع الذي يتضمّن أن يكون محمّلاً بثقل. هذه التّعريفة صحيحة. إذا كان قانوننا يُلحُّ بشدّة على الحاجة الكبيرة للعمل في هذه المجالات( السّلام الذي عليهم إدراك بناءه دوماً ؛ وبالنّسبة للفرح : سيستعملون بحيويّة في شتّى الظّروف)، لأنّ هذه الأفعال تتطلب جهوداً من ناحيتنا *  لنتذكر كلمات ربنا المسامحة والمشجّعة : لأنّ نيري ليّن وحملي خفيف( متى١١ ٣٠). . ولكن يوجد تعريفة أخرى للفعل حمل، التي عليها أن تُطبّق في بندنا ١٩. لقد قلنا عن الشّجرة بأنّها تحمل ثمراً أو عن الأرض أنّها تحمل القمح. بالطّريقة نفسها، علينا حمل المسيح المخلّص لإخوتنا. هو هذا الثّمر الذي يُعطى كطعام لخلاص البشرية. يستعمل القديس بولس، في رسالته الثانية إلى أهل قورنتس، مجازاً يرسم بشكل رائع هذا الفعل : فإنّا نحن نفحة المسيح الطّيبة لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون (٢قو٢ ١٥).

 أعضاء المسيح المُقيم، نحن مدعوين لكي نكون مرسلو الفرح الحقيقي. ولكن ما الذي علينا فهمه بالفرح الحقيقي في هذا المضمون ؟ في أعلى بقليل من هذا الفصل، لقد استطعنا تمييز أفراح الحياة الجيدة، أفراح الإنجيل والحياة الجديدة. هذه الأفراح الأخيرة هي متفوّقة على أفراح الحياة، لأنّها على عكس الأولى التي هي حتماً زائلة، فإنّ أفراح الإنجيل والحياة الجديدة هي أفراحاً أبديّة، إلهيّةّ. لهذا السّبب بإمكاننا التّحدّث عن الفرح الحقيقي، إذ لا يوجد فرح آخر يُمكنه أن يتفوّق عليه : ولكن لا تفرحوا بهذا أنّ الأرواح (الشّريرة) تخضع لكم بل افرحوا بأنّ أسماءكم مكتوبة في السّماوات (لو١٠ ٢٠). إنّ فرح الإنجيل وفرح الحياة الجديدة هي أفراحاً الّتي نحن مرسلين إليها قرب إخوتنا البشر. يتحدّث فرنسيس الأسيزي على طريقته الخاصّ في توصيته حول الفرح الحقيقي والفرح المزيّف : طوبى للراهب الّذي لا يجد متعةً أو فرحاً إلاّ في كلام الرّبّ وأعماله المقدّسة، وبواسطتها يقود البشر إلى حبّ الله بفرح وابتهاج( ت ٢١). إنّه قبل كلّ شيء سر التّثبيت الّذي يوظّفنا في مَهمّة المرسلين هذه قرب العالم. يُذكّرنا قانوننا هذه التّولية ويُشدّد (سيعملون بحيويّة) لكي يكون همّ الإخوة وأخوات القديس فرنسيس العلمانيين الدّائم (في شتى الظّروف) أن يكونوا مرسلي هذا الفرح الكامل.

 حمل الفرح إلى الآخرين. وحمل الرّجاء إلى الآخرين. ليست الكلمة الأخيرة من هذا المقطع إلاّ واحدة من الفضائل الثّلاث الإلهيّة *  تستند الفضائل الإلهيّة( إيمان، رجاء والمحبة) مباشرة إلى الله. وهي تُهيّئ المسيحيين لأن يحيوا في علاقة مع الثّالوث الأقدس. فمصدرها وعلّتها وموضوعها الله الواحد والثّالوث( ت م ك ك١٨١٢). : الرّجاء." الرّجاء هو الفضيلة الإلهيّة الّتي بها نرغب في ملكوت السّماوات، والحياة الأبديّة، رغبتنا في سعادتنا، واضعين ثقتنا بمواعيد المسيح، ومستندين لا إلى قوانا بل إلى عون نعمة الرّوح القدس"(ت م ك ك ١٨١٧). هنا أيضاً، وتبعاً لفرنسيس، ينصحنا قانوننا لحمل هذا الرّجاء للعالم : فأقرّ الرّجاء محلّ القنوط...

 في نهاية هذه التّعاليق، سنبدأ حتماً بالتّكهّن عن سبب هذا الاجتماع المدهش، في نفس البند، لموضوع مثل الموت، مع مواضيعٍ مثل السّلام والفرح...

أعضاء المسيح المقيم، الذي يُعطي معناه الحقيقي لأختنا الموت...

 معنى الموت الحقيقي : أمام الموت يبلغ لغز الوضع البشري ذروته. الموت الجسدي هو، على نحو ما، طبيعي، ولكنّه، في نظر الإيمان، أجرة الخطيئة (رو٦ ٢٣).
وهو، للذين يموتون في نعمة المسيح، اشتراك في موت الرّبّ، للتّمكّن من الاشتراك أيضاً في قيامته.الحياة لي هي المسيح، والموت لي ربح( في ١ ٢١). وما أصدق هذا القول : إن نحن متنا معه، فسنحيا معه (٢تي ٢ ١١). هنا نكمن جدّة الموت المسيحي الأساسيّة : بالمعموديّة، المسيحي هو منذ الآن سريّاً "ميت مع المسيح"، ليحيا حياة جديدة *  إنّ مجموعة هذا المقطع مستخرج من كتاب التّعليم في الكنيسة الكاثوليكيّة : §١٠٠٦(مستخرج)،١٠١٠(مستخرج) .

 أعضاء المسيح المقيم : الفريسيون وكثيرون من معاصري الرّبّ كانوا يرجون القيامة. وقد علّمها يسوع على وجه ثابت. فأجاب الصدّوقيين الذين ينكرونها : أولستم على ضلال، لأنّكم لا تفهمون الكتب، ولا قدرة الله ؟( مر١٢ ٢٤).
الإيمان بالقيامة يرتكز على الإيمان بالله الّذي ليس هو إله أموات بل إله أحياء (مر١٢ ٢٧). ولكن هناك أكثر من ذلك : فقد ربط يسوع الإيمان بالقيامة بشخصه هو : أنا القيامة والحياة (يو١١ ٢٥). يسوع نفسه هو الّذي سيُقيم في اليوم الأخير الّذين آمنوا به وأكلوا جسده وشربوا دمه. وقد أعطى عن ذلك من الآن علامة وعربوناً، بإعادة الحياة لبعض الموتى، منبّئاً بذلك بقيامته الخاصّة، مع أنّ هذه ستكون من نوع آخر... الشّاهد للمسيح هو الشّاهد لقيامته( أع ١ ٢٢)، الّذي أكل وشرب معه من بعد قيامته من بين الأموات( أع١٠ ٤١). الرّجاء المسيحي بالقيامة يحمل في جملته آثار الّلقاءات مع المسيح القائم. سنقوم على مثاله، ومعه، وبه *  نفس الشّيء : ت م ك ك ٩٩٣،٩٩٤،٩٩٥. .

 أخينا الموت : يُشير تسمية الموت أخينا بوضوح إلى مرجع الآية الأخيرة من نشيد المخلوقات المنسوخ من القديس فرنسيس الأسيزي : كن مسبّحاً، يا ربّي، بأخينا الموت الجسدي. قبل متابعة قراءة هذا الفصل، بإمكاننا الإطّلاع على مقطع أخينا الموت من الفصل العاشر من كتاب التّكوين هذا الّذي يُعلّق على نشيد المخلوقات. سنكتشف رؤية القديس فرنسيس الأسيزي عن هذا الأخ المميّز فعلاً الّذي هو الموت(...). وبعد هذه القراءة، بإمكاننا الآن متابعة اكتشاف البند١٩.

... سينتظرون في السّكينة الملاقاة النّهائيّة مع ألآب

 انتظار الموت في الخوف أو انتظاره في السّكينة ؟ يُعبّر حدث انتظار الموت بوضوح أنّنا لا يُمكننا التّعدّي على حياتنا أو على حياة الآخرين. علينا انتظار الموت دون تحريضه. في الوقت نفسه، إن مجرّد كوننا مدعوّين لانتظار الموت يجعلنا نعي من الحدث الّذي لا مفرّ منه الّذي هو الموت لكلّ واحد منّا. لا يُمكننا العيش غير مبالين بهذه الّلحظة الّتي تنتظرنا.

 يُعتبر الموت كنهاية. من تلك النّاحية، لا ينفتح الموت إلاّ على العدم، هذا المجهول الكبير من الإنسان. من جهة أخرى، المجهول يُخيف. يُرهبُ كما يُرهب اليأس. ليس العدم سبب الخوف الوحيد الّذي يشعر به الإنسان تجاه الموت. إن كان هناك شيئاً حقيقيّاً عليه أن يُخيفه، فهو جهنّم وحكمه الأساسي الّذي يتضمّن بالابتعاد الأبدي مع الله. لهذا، يُمكن للإنسان أن يخاف شرعاً. ولكن، بالنّسبة لإنسان إيمان، رجاء ومحبّة، لإنسان متمّم رغبات ألآب القدّيسة الّتي هي محبّته بكلّ قوّته، بكلّ روحه وكلّ ذكائه، ومحبّة قريبه كنفسه، يُصبح الموت بداية : بداية حياة وسعادة مع الله. بالنّسبة لإنسان الّذي يُحبّ والعامل مشيئة الله، يُمكن انتظار الموت في السّكينة، إذ إنّها الحياة الأبديّة في الله الّتي تنفتح من خلال هذا المقطع المُحتّم الذي هو الموت، الّذي لا يقدر أن يُفلتَ منه إنسان حيّ (ن م١٢).

 بما أنّه جزاء الخطيئة، ليس الموت بحدّ ذاته ولا يُمكنه أن يكون، مصدر فرح. فإنّ انفصال شخص عزيز علينا من جرّاء الموت( أهل، ولد، زوج أو زوجة،...) هو مصدر أحزان وألام "للّذين يبقون". وهذه الأحزان والآم هي شرعيّة تماماً. رغم أنّنا مؤمنين، لا يُعتبر الحزن خطيئة بسبب موت شخص عزيز علينا. بالفعل، يُحدثُ الموت فسخةً، هي، في نظر الإنسان، نهاية متعذّر إصلاحها. إنّه واقع يتعذّر عليه نفيه. ولكن للّذين لديهم نعمة *  المقصود هنا عن نعمة، وليس فقط عن حظّ، فهذه الأخيرة هي مجرّد صدفة بسيطة. إنّ نعمة الإيمان هذه مقدّمة لجميع البشر، ذي الإرادة الصّالحة كما الإرادة السّيئة. فدورنا إذاً بمعرفة استقبالها. الإيمان بالله الّذي هو ليس إله أموات بل أحياء (مر١٢ ٢٧)، يُمكن أن تكون هذه الآم والأحزان سلفة سكون وطمأنينة لأنّهم يعلمون أنّ المفقود، المتفاجئ بالموت، عاملاً برغبات العليّ المقدّسة، سيكون مستقبلاً في حضن أبينا السّماوات، وأنّ الموت الثّاني لن يُمكن أن يُؤذيه.

 الملاقاة النّهائيّة مع ألآب : إنّ موضع بضع الكلمات هذه، الأخيرة من شكل حياتنا،هي خاصّةً سعيدة. إنّ ما تُعبّر عنه أخيراً هو سبب الكيان ونقطة الإطالة لكلّ حياتنا: الملاقاة الأخيرة مع ألآب. إنّ دعوتنا كإنسان، جماعيّة وشخصيّة في نفس الوقت، هي الدّخول في التّطويبة الإلهيّة، في راحة الله الّذي لا يعرف مساءً ولا صباحاً. أنا موجود، لكي، طيلة سيرة وجودي البشري، أستطيع أن أُحبّ الله مثلما الله يُحبّني. أخيراً، أنا موجوداً، لكي أحصلَ، من خلال ميراث المسيح، فيه ومنه، على حياة الله الطّوباويّة.

 عوضاً عن نهاية، بإمكاننا إعادة قراءة الكلمات الأولى من شكل حياتنا البند، متذوّقين لأيّ درجة يُعطون كيفية الفعل لتمكّن الانتظار في السّكينة الملاقاة النّهائيّة مع ألآب :

 " إنّ قانون العلمانيون الفرنسسيون وحياتهم هو التّالي : عيش إنجيل سيدنا يسوع المسيح تبعاً أمثال القدّيس فرنسيس الأسيزي، الّذي جعل من المسيح إلهامه ومركز حياته مع الله ومع البشر".

 المسيح، عطاء محبّة ألآب، هو الطّريق نحو ألآب؛ هو الحقيقة الّتي يدخلُ الرّوح القدس فينا ؛ هو هذه الحياة الّتي جاء يُعطينا إيّاها بغزارة.

أسئلة

أسئلة فحص المعارف

١) ما هو السّبب الأوّل لجميع القسمات ؟ وكيف بإمكاننا أن نكون مؤمّنين لتأهيل إتّحاد الإنسان الحقيقي مع أبينا السّماوات ؟ ما هو الاسم الّذي بإمكاننا إعطاءه للسّلام والفرح، ليس اسم مضمون مجرّد، بل إسم شخص؟

٢) لقد استطعنا الكشف (في الفصل الثاّني من كتاب التّكوين الحالي) عن أشكال التّجربة الثّلاث الّتي يستعملها الشّيطان لفصل الإنسان عن محبّة الله. هل بإمكاني المقارنة بين أشكال التّجربة الثّلاث، المخاوف الثّلاث، والحواجز الثّلاث، المدمّرة من قبل القدّيس فرنسيس الأسيزي في سيرة حياته ؟ وهل بإمكاني المقارنة بين الفضائل الّتي يجب تطبيقها لمقاومة أشكال التّجربة الثّلاث والوسائل المعتمدة من قبل القديس فرنسيس الأسيزي ؟

٣) ما هو سبب وجودنا، دعوتنا كبشر؟ وما هو الطّريق الّذي علينا اتّخاذه لكي ندخل في هذه السّكينة الّتي لا تعرف مساءً ولا صباحاً ؟

أسئلة تعمّق

١) يذكر القدّاس والّليترجيا على الأقلّ إثني عشر مرّةّ كلمة سلام *  قد يتغيّر رقم الإثني عشر هذا تبعاً لاختيار النّصوص المنفّذة (سلام متبادل عند الدّخول، صلاة افخارستيّة، مقدمة،...). . يبدأ هذا مع السّلام المتبادل( ليعطكم أبينا السّماوات وسيّدنا يسوع المسيح النّعمة والسّلام) للختام بجملة ذهاب المصلّين( اذهبوا في سلام المسيح). بحفظنا لهذا السّؤال الصّلاة الإفخارستيّة كرقم أوّل، هل بإمكاني أوّلاً البحث عن المرّات السّابقة حيث ذُكِرَت كلمة سلام في ليترجية القدّاس؟ أخيراً، كيف نترجم أو نحصل على كلمة سلام كلّ مرّة نذكرها ؟

 ٢) شالوم والسّلام عليكَ! سيُعيد فرنسيس بنفسه شكل السّلام هذا، ولكن بإدخاله بوضوح أساس كلّ سلام :" ليُعطكم الرّبّ السّلام ! هذا السّلام، لقد تمنّاه دائماً وبعزم لجميع من كان يلتقيه على طريقه"(١ش٢٣). بالنّسبة لفرنسيس، لا يوجد شكّ : إنّ الرّبّ هو الّذي يُعطي السّلام لأنّها هبة من الله... وأنا، كيف بإمكاني أن أكون صانع سلام في عائلتي، في عملي، في مدينتي،... ؟

٣) الكنيسة، بعد أن تقول على المسيحي المنازع للمرّة الأخيرة كلمات المغفرة الّتي بها يحلّه المسيح من خطاياه، وتختمه للمرّة الأخيرة بالمسحة المشدّدة، وتهبه المسيح في الزّاد الأخير غذاء للسّفر، تُخاطبه بثقة هادئة : أيّتها النّفس المسيحيّة، غادري هذا العالم، باسم ألآب القدير الّذي خلقكِ، وباسم يسوع المسيح، ابن الله الحيّ، الّذي تألّم لأجلكِ، وباسم الرّوح القدس الّذي أُفيض فيك. خذي مكانكِ اليوم في السّلام، ولتستقرّ سكناك مع الله صهيون المقدّسة، مع مريم العذراء والدة الإله، والقدّيس يوسف، والملائكة، وجميع قدّيسي الله(...). عودي إلى خالقكِ الّذي كوّنكِ من تراب الأرض. وفي ساعة خروج نفسكِ من جسدكِ، فلتُسارع مريم العذراء والملائكة، وجميع القدّيسين لملاقاتك(...). وليُتح لكَ أن تُشاهدي فاديك وجهاً لوجه... في نهاية اكتشافنا لشكل الحياة، هل بإمكاني ببساطة التّعبير على كيفيّة الحصول على كلمات الكنيسة هذه الّتي تقولها في ساعة الموت ؟

أعلى الصفحة

منفذاً من www.pbdi.fr رسم من Laurent Bidot ترجمة : Myrna Lebertre